من المعلوم أن الله عز وجل أمر عباده بالعمل الصالح ، ووعدهم برؤيته، هو ورسوله ،والمؤمنون في قوله عز من قائل : (( وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون )) ، ولا شك أن هذه الرؤية تشمل رؤية الدارين ،العاجلة ،والآجلة . وهذه الرؤية هي ذلك الإشهار الإلهي الذي يتولاه الله عز وجل ، فيكشف للخلق عمل الذين يحسنون ، لعلمه سبحانه وتعالى بحسن عملهم ، وإخلاص نيتهم . ومقابل هذا الإشهار الإلهي ، وهو من المؤشرات الدالة على القبول في العاجل ، يوجد التشهير الإلهي ، وهو تلك الفضيحة التي تلحق الذين يسيئون العمل ، وبنوايا مبيتة وخبيثة عندما يقدمونها على أنها حسنة لخداع الناس . وعلى غرار جزاء الآخرة ، تكون في الدنيا إما البشارة ، وإما الوعيد . ومعلوم أيضا أن الذين يسيئون العمل في الغالب يتسترون عن خبيث نواياهم ، ويحرصون على إظهار عكس ما يبطنون بدافع الرياء والسمعة الباطلة . وعن هؤلاء يقول الله عز وجل : (( لا يحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب أليم ))، فالفرح إنما هو الكبرياء الذي يشعر به أصحاب الأعمال السيئة . ومما يترتب عن هذه الكبرياء حب سماع الحمد المكذوب غير المستحق . والله تعالى توعد هؤلاء بالعذاب المسبب للألم في عاجلهم ، وفي عاجلهم . أما ألم عذاب العاجل ،فهو ألم الفضيحة والتشهير ، وأما ألم عذاب الآجل ،فدائم لا يبارح صاحبه . ومعلوم أن الكياسة قليلة في الناس ، وقليل من يحتقر عمله مهما كان ، ويدين نفسه ، ولا يترك لها فرصة لتبجح إليه . والأكياس العقلاء يتهمون أعمالهم ، وينسبون لها التقصير مهما اجتهدوا . وأما العجز فهو إكبار النفس عن باطل ، وتعظيم عملها ، وإن قل أو ذل مع العيش على الخيال الغرور، أو الأماني الكاذبة التي لا تستقيم في واقع الحال . ولهذا جاء في الأثر : “الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني ” . ومعلوم أيضا أن النفس البشرية متضخمة الأنا بالضرورة ، لهذا فهي تنفخ في أعمالها مهما كانت لتعطيها أكثر من قيمتها ، وتجعل منها إنجازات ، وما هي إلا أوهام يخيل لأصحابها أنهم قد أحسنوا الصنع ، وهم في الحقيقة ضحايا الإساءة . والخاسر حقيقة في ميزان الله عز وجل ،هو الذي يظن في عمله ما ليس فيه ، لهذا يقول جل من قائل : (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا )) ،وما أكبر خسارة من ساء صنيعه ، وهو يعيش وهم ، وخيال حسن الصنيع . ومعلوم أيضا أن لله عز وجل لم يمنع ،ولم يحرم الحديث بنعمه لقوله جل من قائل : (( وأما بنعمة ربك فحدث )). وقد يكون من نعمه توفيقه لبعض العباد إلى الأعمال الصالحة . فإن حدث أصحاب الأعمال الصالحة بها ،ووراء ذلك نية خالصة لله تعالى ، كان حديثهم محمودا . وأما إن حدثوا بذلك ،ووراء حديثهم نية بالرياء ، فإن ذلك يحبط عملهم عند الله عز وجل ، فيفضحهم ويخزيهم بين عباده . أما إذا كانت الأعمال سيئة أصلا ، وأصحابها يعرفون ذلك ، ويتعمدون تقديمها للناس على أنها حسنة ، فإنهم يجمعون بين الرياء ـ وهو كذب في حد ذاته أي كذب النية والقصد في حال صالح العمل ـ والكذب المتعلق بالعمل السيء . يكذبون حين يقدمون العمل السيء صالحا ، ويراءون حين ينشدون مدح الخلق ، وينسون رقابة الخالق سبحانه . وما أكثر هذا الصنف من الناس عندنا ،حيث لا يعنيهم سوى إشهار المديح الكاذب غير المستحق . ويمقت هذا الصنف كل من يريد أن يقدم لهم عيوبهم كهدايا لإصلاح أحوالهم . ويتعشقون الكذب والتملق من غيرهم ، وحتى من أنفسهم ، ويطربون له كأشد ما يكون الطرب ، وهم واثقون في قرارة أنفسهم أنه محض تملق كاذب . ويعانون بسبب ذلك مرارة الشعور بالإحباط الناتج عن المدائح الكاذبة، التي يحبون أن يحمدوا بها ،مقابل أعمال سيئة هم واثقون من سوئها . ويتعقب الله عز وجل هؤلاء الراغبين في المدائح الكاذبة ، فيكشف أسرارهم للناس ، فتنقلب مدائحهم الكاذبة إلى مثالب تعرضهم للسخرية ، وتكسبهم الغم والألم في حياتهم. وما أظرف المغاربة في نكتهم حين يصورون الرياء ، ويتعلق الأمر بأحد المرائين وهو يفخر على رفيق له في سفر بأكل أفراخ الحمام ،حتى إذا أصابه دوارالسفر تقيأ ،فإذا بأفراخ الحمام تصير حبات عدس متطايرة ، فيدعوها الرفيق ساخرا إلى الطيران ،سخرية، واستهزاء بفخر صاحبه الكاذب ، أو ” الفاشر ” على حد التعبير العامي الذي يقلب الرافش إلى ” فاشر” علما بأن الرفش هو التمتع في الأكل والشرب ، والعامة تقول ” الفشر والخبث يشرشر” لمن يدعي ما ليس فيه ويكذبه الواقع . ولن يؤثر العجز على الكياسة إلا بليد ، أو سفيه ، وصدق من قال : مهما تكن عند امرىء من خليقة // فإن خالها تخفى على الناس تعلم .
ورب الناس سبحانه العليم بخائنة الأعين، وما تخفي الصدور، هو الذي يكشفها للناس ، فإن كانت سجية حمدت ، وإن كانت منقصة ذمت ، وذلك جزاء الأعمال في الدنيا قبل جزاء الآخرة ، وهوالجزاء الأوفى . وعلى الراغبين في إشهار الله عز وجل لأعمالهم أن يسلكوا إلى ذلك مسالكه ، وإلا فتشهيره وراء كل سعي كاذب ، ووراء كل نية مبيتة ، ولا يحيق المكر السيء إلا بأهله .
الله عز وجل كما وعد بإشهار الإخلاص توعد بالتشهير بالرياء
اترك تعليق